مقالات

الثورة السورية: صراع القيم

من تعريفات القيم الاجتماعيّة أنّها معاييرٌ، وأسسٌ متعارفٌ عليها ضمن المجتمع الواحد، وتُشير إلى طرق تعامل الأفراد معاً، والموافقة على السلوك المقبول، ورفض غير المقبول. ويفرق الدكتور طارق سويدان بين القيم والأخلاق على أساس أن القيم تخص الأفراد، بينما الأخلاق تخص المجتمع، ويرى أن الأخلاق تتغير عندما تتغير قيم الأغلبية.

ومن خصائص القيم أنها متغيرة وليست ثابتة، كما أنها مكتسبة وليست وراثية. فالإنسان الواحد تختلف أولويات القيم لديه متأثرا بعامل السن مثلا، فقيمه عندما يكون طفلا تختلف عنها في سن الشباب، وهكذا، وكذلك الأمر بخصوص الاكتساب فقيمة الصدق مثلا تكتسب من خلال التربية غالبا، كما تختلف القيم بالعموم بين المجتمعات الحرة والمجتمعات المستعبدة، فبينما تعتبر الحرية الفردية، واحترام الخصوصية، وحرية التعبير، ومن أهم القيم لدى المجتمعات الحرة، يلاحظ أن قيما مثل: الأمان، القناعة، التسلية، وما شابه ذلك لدى المجتمعات المستعبدة. ولعل التغير الذي يصيب منظومة القيم وأولوياتها هو أهم ما يجب أن يرافق الثورات، فثبات منظومة القيم التي كانت سائدة في عهد نظام الحكم الذي ثارت الجماهير في وجهه يعني انتقاصا مهما من المعنى الحقيقي للثورة.

خلال سنوات حكمه الطويلة اختزل النظام السوري منظومة القيم بقيمة واحدة، وهي المقاومة والتصدي للمشاريع الاستعمارية، الحقيقي منها والمتخيل، ولأن القيم تحتاج لفلسفة تبرر وجودها فقد روج النظام السوري وبأسلوب ممنهج، أن هذه القيمة كافية لتعويض السوريين عن كل ما يحتاجه الإنسان من حرية وكرامة وإيمان وصدق ونجاح وإيثار، وإلى ما هنالك من قيم إنسانية، أو لنقل، إنه روج أن هذه القيمة تستحق أن يتنازل الشعب عن باقي القيم من أجلها معتمدا مبدأ اقتصاديا؛ فالقيمة في الاقتصاد، هي مُجمل ما يُضيفه الفرد أو الجماعة، إذا كانوا يرغبون بامتلاك شيء معيّن، أو الحفاظ عليه، مع ضرورة أن يكونوا على استعداد تام للتنازل عن منافع أخرى، أو التضحية بها مقابل امتلاكه. واقتنع أغلب السوريين بشكل أو بآخر بهذه الفلسفة، وعُمِّمت مقولة لدى الأغلبية الساحقة من السوريين: إن السوري أينما ذهب فهو مرفوع الرأس  وله مكانته الخاصة، واكتسبت هذه المقولة الكثير من الصدقية من خلال شهادة الشهود، أولئك الذين جربوا السفر إلى بلدان أخرى، وهذا طبيعي، فالإنسان بطبعه، عندما يتكلم عن مغامراته أو ذكرياته، يستحضر ما يرضي غروره، فحديث الذكريات دائما انتقائي، ويستطيع المرء أن يكتشف أن هذه المقولة (السوري أينما ذهب محترم وله خصوصية) تندرج ضمن سياق مدح الذات، فالشعوب -بشكل عام- تراكم في مخزونها الثقافي ما يثبت اتصافها بالألمعية.

ضمن هذا السياق، أحد السوريين المؤيدين للنظام السوري يتحدى أنه فيما لو أتيحت له الفرصة للحديث أنه يستطيع إفحام كل معارضي النظام، معتقدا أن لديه حقائق ومعلومات بإمكانها إسقاط كل مقولات الثورة, فبرأي هذا الجهبذ؛ يكفي أن الرئيس السابق تواضع له أحد رؤساء أمريكا وجاءه ليجتمع به، ويكفي أن الرئيس الوريث لم يتنازل لإسرائيل حتى الآن، فهذا يكفي لغض النظر عن السلخ والجلد والاغتصاب والموت تحت التعذيب والنهب والسلب والفساد والمحسوبية والإذلال والإفقار والتضييق وكم الأفواه، وسحق الكرامة.

لم يكن رفع شعار الكرامة، أو إطلاق اسم “ثورة الكرامة” على ثورة الشعب السوري من باب الارتجال، بل هو اختزال لمطالب الشعب السوري بلمسة لا تخلو من العبقرية، فالكرامة: هي حق الفرد في أن تكون له قيمة وأن يُحترم لذاته، وأن يُعامل بطريقة أخلاقية. وهي شُعورٌ بالشَّرَف والقيمة الشَّخصيَّة يجعَله يتأثَّر ويتألَّم إذا ما انْتُقِص قَدْرُه. إذن، فكرامة الإنسان لا تتحقق إلا من خلال حرية التعبير، وحرية المعتقد، وحرية الرأي، ومن خلال المساواة، ومن خلال التوزيع العادل للثروة، ومن خلال حصوله على كافة حقوقه وعلى رأسها حقوقه السياسية في التحزب والترشح والانتخاب. وبالمثل؛ ينتقص قدر الإنسان وتهان كرامته عندما يجرد من هذه الحقوق، وتنتقص عندما يضطر لدفع الرشوة، أو عندما يقبل الرشوة، أو عندما يضرب، أو يوبخ، أو ينعت بصفات الحيوانات، أو عندما يقف بطوابير مكتظة من أجل الحصول على مادة أساسية. ولعل الأسوأ من ذلك؛ عندما يجبر على امتداح من سلبه كرامته.

بين هذه القيمة وتلك بون شاسع، إنهما: نظام جائر وثورة حق، هما قيمة كرست من أجل العبودية, وقيمة هي روح الحرية وروح الثورة، إلا أن المحزن والمؤلم في آن معا؛ أن معظم السوريين ما يزالون يدورون في فلك القيمة الأولى، وهم مصممون حتى الآن على محاربة النظام من خلالها، فلم تتوقف السوريون يوما عن اتهام النظام بالعمالة لإسرائيل، وآخرها تسريب أو ترويج خبر عن لقاء بين النظام السوري والإسرائيليين في قاعدة حميميم برعاية روسية. ولعل في هذا ما يشير إلى إهمال الشعار الرئيسي أو القيمة العليا للثورة والانشغال بردود الأفعال والدفاع عن النفس، فحسب معادلة النظام السوري: من خرج عليه يريد إسقاطه إنما يريد إسقاط إحدى قلاع المقاومة. وبالتالي؛ هو خائن وعميل.

ليس عيبا أن يكون الشعب السوري يميل بعواطفه نحو مآزرة الشعب الفلسطيني، ورفض الهيمنة الغربية، وما إلى ذلك من قيم التحدي، ولا تعارض بين هذا وبين المطالبة بأن تكون كرامة الإنسان في قمة هرم القيم. والقول نحن نريد أن تكون كرامة الإنسان هي القيمة العليا ينبني عليه الكثير، ولعل أهم ما يمكن قوله في هذا المجال: إن تحرير فلسطين وليس مجرد معاداة محتلها، لا يعطي الحق للقائد المحرر أن يمتهن كرامة شعبه. إذن، كرامة الإنسان أولا، ثم ليكن بعدها ما يكون.

التفرد بالسلطة والاستبداد بها مناف لكرامة الإنسان وماح لها، وسحق كرامة الإنسان يحتاج لمبررات قوية. لذلك، وجد النظام السوري ضالته في عداء الشعب السوري للمحتل الإسرائيلي، وتعاطفه ومؤازرته للشعب الفلسطيني بأن اتخذ من شعار المقاومة والممانعة وسيلة لسحق كرامة السوريين. وبناء عليه؛ فإن تكريس فكرة أن تكون كرامة الإنسان هي القيمة العليا التي تعلو ولا يُعلى عليها يعني إسقاط النظام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى