قراءة في حدث

قراءة في قمة موسكو

بلهفة وترقب شديدين انتظر السوريون نتائج قمة موسكو بين الرئيسين الروسي “فلاديمير بوتن” والتركي “رجب طيب أردوغان”، بخصوص الأزمة التي تصاعدت في محافظة إدلب. ومن خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب القمة لاحظ الجميع أن الغموض هو السمة الأكثر وضوحا في مخرجات هذه القمة، وأمام هذا الغموض تنوعت ردود أفعال السوريين بشكل عام، وجمهور الثورة بشكل خاص. فما هي أهم وجهات النظر التي تستحق الوقوف عندها؟

اتفاق لن يصمد:

ليس لدى الروس والنظام رغبة في عقد اتفاق مع تركيا، إلا أنهم تفاجؤوا بالمقدرة والكفاءة العاليتين اللتين أظهرتهما القوات التركية. لقد ظن الروس أن عدم سماحهم للطائرات المقاتلة التركية الدخول إلى أجواء إدلب سيجعل القوات التركية على الأرض شبه مشلولة، فأي سلاح على الأرض يستطيع العمل من غير غطاء جوي! إلا أن استخدام تركيا الطائرات المسيرة “بيرقدار” كان مفاجأة حقيقية أذهلت العالم قبل الروس، وكانت الصور التي تظهر تدمير هذه الطائرات لمنظومات الصواريخ “بانتسير-اس” التي قيل إنها قادرة على التصدي لهذه الطائرات مذلة ومهينة لروسيا ولسلاحها في نفس الوقت، وبدا للروس أن تكرار مثل هذه الحوادث سيكون بمثابة دعاية فحواها: “أن السلاح الروسي خردة”. وعليه، فوقف إطلاق النار مجرد استراحة يتم التحضير من خلالها لوسائل وتقنيات قادرة على مواجهة الهجمات التركية في المرة القادمة. وبالإضافة إلى ذلك، استطاعت تركيا من خلال الأزمة تحشيد المجتمع الدولي للاصطفاف جانبها في مواجهتها الأخيرة مع النظام السوري ومن خلفه روسيا، ومعلوم أن هذا التحشيد احتاج من تركيا جهدا كبيرا، واستغرق وقتا ليس بالقليل. وعليه، يمكن النظر إلى الاتفاق أيضا من هذا الباب على أنه محاولة لتبريد الموقف إلى أن يفقد هذا الحشد زخمه ويتراجع.

 اتفاق من موقف ضعف:

  لم يذكر أحد المتحدثين في المؤتمر الصحفي الذي أعقب القمة شيئا عن انسحاب قوات النظام من المناطق التي اجتاحتها خارج حدود اتفاق سوتشي، وهو ما كان المسؤولون الأتراك يؤكدون عليه في كل خطاباتهم وتصريحاتهم قبل القمة، بل إن ما تم الحديث عنه هو وقف إطلاق النار عند خطوط التماس. أي، أن المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام لن يتم الانسحاب منها وذهبت إلى غير رجعة، وحتى نقاط المراقبة لم يتم الحديث عنها أبدا، وهو ما يوحي أنها سوف تتراجع مستقبلا إلى حدود المنطقة المتبقية في حوزة المعارضة أي، عند حدود خط الاشتباك الذي توقفت عنده المعارك. وبالغ البعض بالتشاؤم ليقول: وإن هذا مؤقت إلى أن يتم خرق جديد تقضم من خلاله مناطق جديدة تنتهي بالسيطرة على كامل إدلب.

 رؤية أخرى:

 “اتفاق سوف يصمد وسوف يتم البناء عليه”، فحقيقة الأمر أن مخطط النظام هو اجتياح إدلب بالكامل، ومن ثم إعلان النصر. وهو ما تم الترويج له من قبل النظام وروسيا، قبل الحملة وأثناءها، فتركيا التي لن تتجرأ على الوقوف في وجه هذا الاجتياح؛ لن تتجرأ أن تقول لن أنسحب من باقي المواقع الواقعة تحت إدارتها، والولايات المتحدة التي قرر رئيسها سحب قوات بلاده من سوريا ثم أبقى على بعضها في مناطق محددة تحت ضغط من بعض المؤسسات في الحكومة الأمريكية يكفيها أن يقوم بعض عملاء النظام بتنفيذ تفجير في إحدى قواعدها لكي تنسحب. إذن، ليس الهدف فتح طرقات أو السيطرة على بعض المناطق إنما الدوس على مقولة لا حلا في سوريا سوى الحل السياسي التي أصبحت في الآونة الأخيرة مقولة لا تجد من يسعى إليها عمليا إلى أن اتخذت تركيا هذا الموقف الحازم الذي حاولت روسيا زعزعته بكل ما أوتيت من قوة لكنها لم تنجح. فحتى اللحظة الأخيرة ما قبل بدء العملية العسكرية التركية كانت روسيا تطالب تركيا بإفساح المجال لقوات النظام للسيطرة على كامل إدلب، وحتى العملية العسكرية التركية “درع الربيع” بدأت كرد فعل على عمل استفزازي يندرج ضمن سلسلة الضغوط على الموقف التركي، إلا أن الرد التركي الذي كان حاسما ومفاجئا، بالإضافة إلى الجهود الدبلوماسية التي بذلتها تركيا لعزل روسيا دوليا وحشرها في الزاوية، جعل روسيا أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تصطدم مع تركيا وهو ما كانت تخشاه لعدة أسباب؛ منها ما له علاقة بالمصالح المشتركة، ومنها ما له علاقة بإن يتحول الصدام مع تركيا إلى صدام مع الناتو. وإما أن تتراجع عن موقفها الداعم للنظام معلنة بذلك نهاية الحلم الذي راودها وراود النظام السوري بإمكانية الحسم العسكري والتفرد بالحل، وهو ما عبر عنه الرئيس التركي في اليوم التالي للقمة عندما قال: “تركيا كبدت النظام خسائر فادحة باستعمال مواردها الخاصة، وأثبتت عزمها على أن تكون صاحبة كلمة بخصوص مستقبل سوريا”.

إن أهم ما يجب التوقف عنده أن اتفاق سوتشي أصبح مكتوباً بعد أن كان أشبه بالتفاهم، وتدوين الاتفاق جاء نتيجة لتبادل الاتهامات من قبل الأطراف بعدم الالتزام. وهذا يعني العودة من جديد إلى الاتفاق السابق بطريقة أكثر جدية وبشروط وبنود جديدة تجعله أكثر وضوحا وأكثر قابلية للالتزام، وهو ما يرتب بعض الالتزامات على الطرفين. فروسيا ملزمة بأن تخرج قوات النظام من المناطق التي احتلتها – وإن لم يصرح بذلك – أو أنها ستجد صيغة قريبة من هذه الصيغة تسمح للمدنيين بالعودة إلى منازلهم، وهنا يمكن أن تعيد تركيا طلب تفعيل بند المنطقة العازلة، ولكن هذه المرة من خلال الطلب من روسيا سحب قوات النظام العسكرية خارج هذه المنطقة لتكون هذه المنطقة محمية بضمانة تركيا وروسيا معا. أما بالنسبة لتركيا، فأغلب الظن أنها أصبحت ملزمة بإبعاد عناصر التنظيمات المصنفة على أنها إرهابية، أو تفكيك هذه التنظيمات، أو القضاء عليها، أو ما يشبه ذلك، فليس من المعقول أن يكون تسيير الدوريات المشتركة على الطريق الدولي (m4) وإنشاء الممر الأمني الذي تم الحديث عنه هما مجمل ما تم الاتفاق عليه، بل من المؤكد أنهما الفقرتان الوحيدتان اللتان أمكن عرضهما من خلال المؤتمر الصحفي، أما باقي بنود الاتفاق فقد حجبت مؤقتا تخوفا مما يمكن أن تثيره من إحراج لبعض الأطراف، ومما يمكن أن يأتي من ردود أفعال تشكل مخاطر أمنية.

لعل ما حصل في اليوم التالي للقمة يلقي الضوء على بعض التفاصيل الغامضة، فالموقف الأمريكي الذي كان مرحبا باتفاق وقف إطلاق النار تحول إلى رافض لاستصدار بيان رئاسي في الأمم المتحدة داعما لهذا الاتفاق، وهذا الموقف المتماثل مع مواقف أخرى لكل من فرنسا وبريطانيا يمكن قراءته على الشكل التالي:

أولا: بالنسبة للبنود التي كان من المتوقع وجودها دون الإعلان عنها في المؤتمر الصحفي هي موجودة بالفعل. ولكن، يبدو أن آلية تطبيقها معقدة وغير واضحة تماما، وهو ما يمكن أن يقرأ في ثنايا البيان الصادر عن الرئاسة الفرنسية التي اعتبرت أن هذا الاتفاق يتضمن عددا من النقاط الغامضة، ومسائل يصعب التعامل معها، وأضافت أنه لا يوجد وضوح بالنسبة لترتيباته.

 ثانيا: يبدو أن تركيا لم تتمكن من التخلص من البند الذي ينص على استثناء الجماعات الإرهابية من وقف إطلاق النار، وهو البند الذي كان أبرز نقاط الضعف في التفاهمات السابقة. وقد ورد ما يثبت هذا الأمر في بيان الرئاسة الفرنسية آنف الذكر حيث ورد في البيان: “ما دام فلاديمير بوتن قادرا على القصف هنا أو هناك، ورجب طيب أردوغان على لعب عدة أوراق مرة واحدة، والإيرانيون على نشر مقاتلين، فسيمسكون الأفضلية على الأرض، لكنهم لا ينتجون معادلة مستقرة في سوريا”.

ثالثا: توجد رغبة أمريكية بشكل خاص، وغربية بشكل عام بعدم منح الاتفاق – الذي يبدو عسكريا بمجمله – الشرعية التي تؤهله لأن يصبح مدخلا للحل السياسي النهائي وحصر هذا المسار فقط في مسار جنيف.

أما بالنسبة لخرق الاتفاق فأغلب الظن أن الأمر لم يعد متاحا بالنسبة لقوات النظام. فاليوم وبعد انتشار القوات التركية في إدلب لم يعد الأمر مرتبط بتجاوز بعض نقاط المراقبة، وإنما أصبح يعني مهاجمة جيش من أقوى جيوش العالم، وهو جاهز على أهبة الاستعداد ولم يعد بحاجة لأسابيع لنقل الأرتال والانتشار، كما أن المنازلة الماضية التي جربها النظام السوري مع الجيش التركي قضت على كل وهم لديه بإمكانية النصر.

وأخيرا، توقف الكثيرون عند عبارة وقف إطلاق النار عند خطوط التماس مستنتجين منها أن هذه الخطوط أصبحت الحدود الجديدة لمنطقة خفض التصعيد الخامسة، وهذا الاستنتاج يفتقر إلى الكثير من الدقة، فمصطلح خطوط التماس مصطلح عسكري يراد منه تحديد المكان الذي توجد فيه الاشتباكات، وإلا كيف سيكون وقف إطلاق النار؟ أي، هل من الممكن أن يعلن عن وقف إطلاق النار عند حدود اتفاق سوتشي بينما خط الاشتباك في مكان آخر؟ ورغم ذلك، فقد لمح وزير الخارجية التركي من خلال كلمته في المؤتمر الصحفي إلى حدود اتفاق سوتشي.

 إن الإعلان عن وقف إطلاق النار عند خط الاشتباك، أو عند خطوط التماس أمر طبيعي ولا يعني بأي شكل من الأشكال بأن هذا الخط أصبح الحدود الجديدة لمنطقة خفض التصعيد الخامسة. وبغض النظر عن التفاصيل التي ستفصح عنها الأيام المقبلة يمكن القول:

أولا: تم تثبيت مقولة إن الحل للأزمة السورية لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، وتم وأد أحلام النظام وحلفائه بتحقيق نصر عسكري. وعليه، سيتم تفعيل المسار السياسي في القريب العاجل؛ لأن النظام لن يستطيع التهرب من هذا الاستحقاق، وقد تكون أولى هذه الخطوات تفعيل أعمال اللجنة الدستورية.

ثانيا: وإن كان الاتفاق الجديد ترك هامشا لنوع من المناورات العسكرية في إدلب، والتي لم يتضح بعد أهي متاحة للنظام أم أنها حكرا على روسيا فقط؟ لم يعد أمام النظام مناطق يناور فيها عسكريا؛ لذلك أصبح من الآن فصاعدا مطالب بمواجهة الاستحقاقات الداخلية التي كانت مؤجلة بسبب الأعمال العسكرية.

ثالثا: مع اقتراب “قانون قيصر” من دخول حيز التنفيذ، وتقلص عدد بدائل المناورة لدى النظام يبقى السؤال الملح: إلى متى سوف يصمد؟

رابعا: استطاعت تركيا حماية المناطق المحررة ومنع تهجير السوريين لخارج سورية مع وجود شرعنة لهذا الأمر من خلال اتفاق سوتشي والبروتكول الملحق، ولكن تبقي هناك خطوة إضافية إذا ما استطاعت تركيا إنجازها ستكون في موقف أقوى، وهي سحب ذريعة الإرهاب من إدلب، فحينها ستصبح تركيا بموقف أقوى لتحويل المنطقة لآمنة بالفعل.

خامسا: تصريح رأس النظام بأنه راض عما توصل إليه الروس من نتائج يبدو منطقيا إذا ما نظرنا إليه من منظور عسكري آني، ولكن على المستوى الاستراتيجي طويل الأمد فالنظام استخدم آخر أوراقه معولا على صدام تركي روسي يخرج تركيا من سورية، ولكن روسيا فضلت التفاهم مع تركيا وهو ما قد يفتح الباب واسعا في المستقبل لتفاهمات جديدة قد يكون من يدفع ثمنها فعليا هو النظام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى