مقالات

محاولة لقراءة مآلات حرب غزة اليوم

منذ أيام قليلة وفي السابع من تشرين الأول 2023 تحديدا، بطريقة مبتكرة وأسلوب مباغت نفذت فصائل المقاومة الفلسطينية تتقدمها “حماس” اقتحاما عسكريا للمستوطنات المحاذية لقطاع غزة أسفرت عن سيطرة مؤقتة على ثلاث مستوطنات وبعض العتاد العسكري. كما اقتاد المهاجمون عددا كبيرا من الأسرى تجاوز عددهم المئة بين ضابط ومجند ومدني إضافة إلى عدد غير مسبوق من القتلى.

كانت العملية التي أطلقت عليها حماس تسمية “طوفان الأقصى” عملية ناجحة بكل المقاييس لولا الخطأ الذي ارتكبه بعض المهاجمين باعتدائهم على المدنيين، فقد زلزلت هذه العملية الكيان الصهيوني وأصابته بالإرباك والذعر على المستويين الشعبي والرسمي، وحطمت أسطورة التفوق الخارق للكيان الصهيوني، لكن الحكومة اليمينية المتطرفة بقيادة “نتنياهو” استطاعت بالسرعة القصوى أن تستغل الخطأ الذي وقع فيه بعض المهاجمين (الاعتداء على المدنيين) وحشدت تعاطفا وتأييدا عالميا واسعا، ثم أطلقت عملية عسكرية لمهاجمة غزة وتحرير المناطق التي سيطر عليها المهاجمون تحت مسمى “السيوف الحديدية”.

تسارعت الأحداث ولم يعد الحديث عن عملية عسكرية، فهي أصبحت حربا كما أسماها “نتنياهو” وحشد لها مئات الآلاف من جنود الاحتياط وأوامر للطيران بقصف جنوني غير مسبوق للأبنية السكنية والبنى التحتية مستهدفا البشر والحجر، ترافق ذلك مع تصريحات مرتفعة السقف وصلت لمستوى القول: سنغير وجه الشرق الأوسط. في المقابل ترسل الولايات المتحدة الأمريكية أحدث بوارجها الحربية للمنطقة مهددة ومحذرة من أي تدخل من أي طرف كان، وعلى مستوى التصريحات تبدو الإدارة الأمريكية داعمة للإجراءات الإسرائيلية دونما قيد أو شرط حتى تاريخه.

لهول ما يحدث أصبح الحدث هو الخبر الأول والثاني والثالث على محطات التلفزة، بل أصبح الخبر الوحيد لدى أغلب المحطات الإخبارية الناطقة بالعربية؛ تغطية مباشرة، كلمات لمسؤولين، استقبال لمحللين، آراء وآراء مضادة، تنبؤات مختلفة منبثقة عن مشهد معقد، بل هو مشهد معقد جدا، فحماس التي تتعرض لمحاولة اجتثاث – حسب رغبات الإسرائيليين – تنتمي إلى محور يطلق على نفسه اسم “محور المقاومة والممانعة” الذي تتزعمه إيران والتي كانت بالأمس القريب قد روجت لنظرية أو موقف أطلقت عليه مسمى “وحدة الساحات”.

من هنا كان السؤال الأكثر تداولا؛ هل تتوسع هذه الحرب لتشمل أطرافا أخرى كسوريا ولبنان ومن خلفهم إيران مثلا أم أنها تبقى محصورة في غزة؟

في الواقع كلا الاحتمالين وارد، لكن الأرجح أن تبقى الحرب محصورة في غزة، ذلك لأنه توجد رغبة أمريكية وغربية، وكذلك إيرانية بعدم انزلاق المواجهة إلى منعطفات خطيرة في ظل ظروف دولية وإقليمية متوترة. يتضح هذا من المهمة المعلنة التي أرسلت بها البوارج الأمريكية، وهي الردع. كذلك بالنسبة لإيران، فلو كان لديها رغبة بتوسيع نطاق المعركة لأصدرت أوامرها لأذرعها القريبة من إسرائيل بالانخراط في المعركة لأنه الآن، في ظل التخبط والارتباك الإسرائيلي، هو أفضل توقيت.

من أجل أن تتحقق رغبة الأطراف الدولية والإقليمية بعدم توسع نطاق المواجهة لا بد من بعض الإجراءات، وهذا ما سنلاحظه في الأيام القادمة، فبعد امتصاص فورة الغضب الإسرائيلية سيصبح الدعم الأمريكي لإسرائيل مشروطا، بمعنى أنها ستبدأ بمطالبتها الالتزام بالقوانين الدولية والإنسانية. كذلك الأمر فيما يخص دول الاتحاد الأوروبي التي هي بالأصل منحازة لحقوق الشعب الفلسطيني أكثر من انحيازها للكيان الصهيوني. بهذا المعنى: إن النافذة التي فتحت للصهاينة لفعل ما يشاؤون لا بد أنها سوف تغلق قريبا. كذلك ستفعل إيران بأن تبقى مستمرة في ضبط سلوك أذرعها.

رغم أن الاحتمال الأول هو الراجح، إلا أن احتمال انزلاق الأمور لمواجهة تتعدى حدود غزة يبقى واردا، ذلك أن الحروب غالبا ما تنشأ نتيجة سوء تقدير، أو خطأ ما، وما أكثر الأخطاء في الحروب! فاستمرار الصهاينة بذبح غزة بهذا الأسلوب الفاجر سوف يشكل إحراجا شديدا لحلفاء حماس. وفي المقابل، لن يكون الرد المتواضع الذي يبقي حماس على قيد الحياة كافيا لإنقاذ حكومة “نتنياهو”، أو لإنقاذ هيبة الجيش الإسرائيلي الذي تهشمت الصورة التي رسمت له وأصبحت في الحضيض. من هنا يأتي الخطر الذي قد يدفع أحد الأطراف لإجراء بعض الحسابات الخاطئة، والتي بدورها قد تجعل مسار الحرب خارج حدود السيطرة.

في مجمل الأحوال ليس شرطا أن يأخذ شكل توسع المواجهة – إن حصل – شكلا واحدا، فهي يمكن أن تحصل لفترة وجيزة ثم تتوقف، ويمكن لها أن تأخذ شكل حرب استنزاف ممتدة، ويمكن لها أن تأخذ أشكالا أخرى، ولكن أخطرها ذاك الذي يكون على شكل حرب مفتوحة لا هوادة فيها، وهذا الشكل – إن حصل – ستكون نتائجه مدمرة لكلا الطرفين (الكيان الصهيوني ومحور إيران). لذلك، فأغلب التوقعات العقلانية تميل إلى استثناء هذا الخيار.

أخيرا، كما جاءت عملية “طوفان الأقصى” مفاجئة، “جاءت من المستقبل المجهول”، تبقى هي وغيرها من الأحداث المفاجئة داعمة ومانحة المصداقية لتلك المقولة: المستقبل دائما مجهول. وتبقى التحليلات السياسية محاولة للغور في ألغاز المستقبل وأسراره نزولا عند الرغبة الجامحة لبني الإنسان في الاطلاع على المستقبل؛ تصيب أحيانا، وتخطئ أحيانا أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى